السبت، 12 نوفمبر 2016

الدولة العثمانية قوة جاءت على موعدها.. لتنقذ أمة متهالكة


(قد تُنكِر العين ضوء الشمس من رمدٍ                     ويُنكر الفم طعم الماء من سقمِ) - البوصبري -
حقيقة دفاع الترك عن الإسلام وحماية ديار المسلمين يوم ضعف العرب وتفرقوا حقيقة لا شك فيها، يقول "فازلييف"  في كتابه بيزنطة والإسلام: (كان العرب منذ القرن السابع حتى منتصف القرن الحادي عشر يمثلون الإسلام ومنذ منتصف القرن الحادي عشر حتى سقوط بيزنطة عام 1453م أصبح يمثله الأتراك السلاجقة منهم أولا ثم تلاهم العثمانيون).
لقد كان من المفترض أن يخلّد النظام الإسلامي وأن يستمر هذا البناء الشامخ ربما إلى الأبد كونه يحمل في ذاته خصائص بقائه من توازن بين عنصر الروح والزمن.
بيد أن تعارضاً مخالفاً للنهج قد طرأ أدى إلى التصدع في جدران هذا البناء العظيم، حيث يرى الفيلسوف المسلم "مالك بن نبي" أن جرثومة الشرخ قد زرعت يوم شهد العالم الإسلامي أول بذرة انفصال في تاريخه في معركة صفين عام 38 للهجرة، ومنذ ذلك الحدث بدأ يفقد العالم الإسلامي توازنه، في حين يرى البعض أن بداية الوهن في الدولة الإسلامية يوم نسيت الأمة الإسلامية صعوبة كسر الحزمة المجتمعة وسهولة كسر العود المنفرد، فلم يكد ينتصف العصر العباسي حتى انفرط العقد وتناثرت حباته وقامت دويلات متهالكة متصارعة فيما بينها، إلى أن وصلت عوامل التعارض في البناء الإسلامي إلى وعدها المحتوم فكان التمزق والوهن.
عندها نشأ مجتمع جديد هو عصر الانحطاط حيث توقف إشعاع الروح ولم يعد الدين بؤرة الارتكاز التي تنبثق منها كل المفاهيم والعادات والتقاليد والإلهام بل صار نزعة فردية دون إشعاع فخمد نور العقل وبالتالي فقد المجتمع حاجته إلى الفهم وإرادته للعمل وقدرته على الهمة الناشطة واتسعت الفجوة بين السلطة والشعب، في عصر تحول فهم الدين من التعبير عن فكرة جماعية إلى التقوقع في ترعة فردية جمدت رسالته السامية على الأرض.
وبالتزامن مع هذا الوهن والتوقف الحضاري والتحلل غزا الصليبيون واجتاح المغول الأرض، صحيح أن الدولة الأيوبية ومن بعدها المملوكية استطاعتا أن تتصديا للغزوة الصليبية والهجمة التترية وسطرتا للإسلام يومين من أمجد أيامه (يوم الصليبين في حطين ويوم التتار في عين جالوت) لكن حالة التمزق والجمود كانت باقية، فلم تكن دولة المماليك في مصر حينها تقوى على مواجهة أوروبا الناهضة ولم تكن كذلك الدويلات المهترئة على امتداد الساحة الإسلامية وعددها بالمئات لتصمد أمام محاولة جديدة وجادة للغزو والسيطرة والاحتلال.
فلم يكد ينصرم قرن ونصف على اندحار الهجمة الصليبية والمغولية حتى جاء صليبيون آخرون متمثلين بقراصنة احتلوا ثغور الشمال الأفريقي المسلم، حيث استولى البرتغاليون على سبتة عام 1415م وتلاها وهران عام 1509م ومن ثم طرابلس وآسفى عام 1510م وآزمور عام 1553م. وعلى جبهة أخرى كان الإسبان قد احتلوا مليلة وطنجة عام 1471م، وجعلوا من تونس مستعمرة إسبانية تحت وصاية أمير من بني حفص.
في تلك الحقبة البالغة التعقيد، والأمة الإسلامية تعيش حالة ضعف مهين، تظهر الدولة العثمانية كقوة إسلامية جاءت على موعدها كما شاء القدر لتنقذ أمة متهالكة تكاد أن تلفظ آخر أنفاسها.
إذ كان على الأتراك العثمانيين من منطلق إسلامي أن يدحروا الدولة البيزنطية وأن يدرؤوا عن أمتهم الإسلامية خطراً مقيماً بل ويخلصوا ثغور الإسلام من السيطرة الاستعمارية، وأكثر من ذلك كان عليهم أن يوصلوا الإسلام إلى قلب أوروبا، كانت تلك رسالتهم التي أدوها بأمانة واقتدار.
ينتسب الأتراك إلى جدهم "عثمان بن أرطغرل" (عثمان الغازي) من قبيلة "قايي الغزية" أي التركمانية ويشتركون في النسب الغزي مع الأتراك السلاجقة، وقد أسس "عثمان" التشكيل السياسي لقيام الدولة في القرن الثالث عشر الميلادي في شمال غرب الأناضول، ومن الملفت أن "عثمان بن أرطغرل" ولد يوم الخميس الرابع من شهر جمادى الأولى سنة 656 هـ، وهو العام الذي سقطت فيه بغداد في أيدي التتار، وكأن الله سبحانه وتعالى قدر أن يولد في نفس اليوم الذي قُتل فيه آخر الخلفاء العباسيين من يعيد الخلافة شابة فتية بعد أن هرمت وضعفت.
بدأ العثمانيون بالتحرك في آسيا الصغرى فاتسعت رقعة الدولة حيث سيطروا على مدينة "بورصة" عام 1326م ثم تلاها "إزمير" وشبه جزيرة "قوجة لي" فانتهت بذلك آخر قدم للدولة البيزنطية في الأناضول.
ثم أسس أورخان بن عثمان جيشاً خاصاً ربى أفراده تربية دينية خالصة ودُربوا تدريباً عسكرياً راقياً وسمي هذا الجيش بالانكشارية، وتعني العسكر الجديد، اجتاز العثمانيون به مضيق البوسفور واستولوا على شبه جزيرة "غاليبولي (تشنق قلعة)" بقيادة "سليمان بن أورخان" ومن ثم فتحت مدينة أدرنة عام 1361م، وتوالت الحملات الصليبية في ذاك الوقت من قبل دول البلقان والصرب والبلغار والمجريين إلا أن جيوش الدولة العثمانية بقيادة السلطان "مراد بن أورخان" تصدت لهذه الهجمات بل وأثمرت انتصارات لصالح الدولة العثمانية إلى أن استشهد "مراد" في معركة "قصوة" عام 1389م، تولى القيادة من بعده ابنه السلطان "بيازيد بن مراد" فأدار المعركة حتى أثمر النصر وأُسر ملك الصرب.
بدأت تستقيم الأمور والتفتت الدولة العثمانية إلى القسطنطينية التي كانت مصدر قرارات الحرب لغزو ديار المسلمين فكانت هدفاً رئيسياً للسياسة الإسلامية فمنذ القرن الأول الهجري توالت إليها حملات المسلمين دون أن تثمر بالنصر حتى عصر الخلافة العثمانية الذي تحقق فيه الفتح العظيم أخيراً على يد السلطان الشاب (محمد الثاني أو محمد الفاتح كما يسميه التاريخ الإسلامي)، وسقطت الحصون المنيعة لعاصمة الدولة البيزنطية وخرت أسوار فخر اليونان أمام الفاتحين غداة يوم الثلاثاء الرابع عشر من رمضان عام 857 للهجرة (الموافق 29 من أيار/ مايو عام 1453م)، ودخل السلطان "محمد الفاتح" القسطنطينية قبل ظهر يوم الجمعة فأمّن المغلوبين وأعلن حرية الفكر والاعتقاد، وأقيمت صلاة الجمعة في السابع عشر من رمضان ودوى الآذان من أعلى تحفة "جستنيان" وعلت تكبيرات المسلمين في القبة التي أحيا فيها ثلاثون جيلاً من البطاركة العشاء الرباني المقدس، بهذا أزال السلطان الفاتح إمبراطورية الروم الشرقية التي دامت أحد عشر قرنا، وارتفعت هناك راية الشرق المسلم الجديد بهلاله البديع وصارت العاصمة المقدسة للدولة الرومانية حاضرة للدولة العثمانية ومنارة لإشعاع الإسلام.
حقق العثمانيون وحدة العرب بعد انفراط عقدهم وجمعهم في إطار دولة اسلامية جمعتهم تحت رايتها تاريخ واضح يراه حتى القسس والغربيون أنفسهم كما جاء على لسان "مورد بيرجر" في كتابه " العالم العربي اليوم" حيث يقول: (إن وحدة العالم العربي قد تحطمت في القرن التاسع عشر... والحكم العثماني فرض مقداراً عظيما من الوحدة ابتداءاً من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر) ص34.
بنى العثمانيون بجوار ضريح "أبي أيوب الأنصاري" مسجداً يبايع فيه السلاطين حيث يقلّدون سيف "عثمان بن أرطغرل" من يد إمام المسجد فكانت تقام البيعة في مسجد قائد عربي لسلطان تركي، أثبت من خلالها العثمانيون ان شعيرة انتماءهم هي للدين ولا لعرق أو قوم.
أما عن انتماء الرعية فجميع المسلمين كانوا يسجلون في دوائر النفوس وفي بطاقات الهوية كمسلمين فحسب، دون أن يذكر إلى جانب ذلك فيما إذا كانوا من الأتراك أو من العرب أو من الشراكسة أو الأكراد.
وبالنسبة لللغة فما كانت تسمى باللغة التركية بل تدعى اللغة العثمانية التي تشكلت من لغات المسلمين الرئيسية حينها كالعربية والفارسية والتركية، وأصبحت ذات يوم اللغة العربية تشكل أكثر من 60% من اللغة العثمانية.
كان الوطن عند العثمانيين هو كل أرض يسكنها المسلمون وكلمة "الملة" تعني الأمة والدين معاً وذلك كان هدف العملية التربوية في جميع المدارس والجامعات والمعاهد في الخلافة العثمانية، واعتبر العثمانيون أي مقاتل مسلم جاهد في سبيل الله ميراثهم البطولي وإن تباعدت الأزمان والأنساب.
وحول الأباطيل التي تزعم أن الدولة العثمانية كانت دولة استعمار واستبداد بالنسبة للعرب والمسلمين فيكفي الرد عليهم على لسان  أحد أعداء الدولة العثمانية حيث يقول (استيفان نيل) في كتابه تاريخ الإرساليات المسيحية: (... والترك بدلاً من أن يصبحوا حلفاء الغرب المسيحي أصبحوا رأس الرمح للمد الإسلامي الجديد والأشد تهديداً ) ص125.
ويقول أيضاً: (إن الحرب العالمية الأولى وهزيمة تركيا قد حددت نهاية الحلم الإسلامي بالسيادة على العالم. ولم تسقط دار الإسلام إلى مثل هذه المنزلة الوضيعة من قبل)ص478.
بعد أن أعيا الدولة العثمانية الجهاد في سبيل إبقاء هذه الإمبراطورية الإسلامية، أسقطها صليبيوا القرن العشرين بتكاثرهم عليها وسلموها  لوكلائهم من رموز الهزيمة وبدائل الغزو.
(لم أخشَ مطلقاً في يوم من الأيام من رجل متعلم،إنما أتجنب هؤلاء الحمقى الذين يعتبرون أنفسهم علماء بعد قراءتهم بعض الكتب) - السلطان عبد الحميد الثاني -

مراجع

- الدولة الإسلامية للدكتور محمد سعيد الشعفي وزملاؤه
- بيزنطة والإسلام (فازلييف)
- تركيا والسياسة العربية (أمين شاكر وسعيد الغريان ومحمد عطا)
الإمبراطورية البيزنطية (نورمان بينز)
- المسألة الشرقية دراسة وثائقية عن الخلافة العثمانية (محمود ثابت الشاذلي)
- محاضرات في نشوء الفكرة القومية (ساطع الحصري)
- تاريخ الإرساليات المسيحية (استيفان نيل)
- الإمبراطورية البيزنطية (أومان)
- وجهة العالم الإسلامي (مالك بن نبي)