عشت طفولة محصورة بقرية جرجناز، وجرجناز هي منتهى القرى المتحضرة الى الشرق من معرة النعمان في سورية، فالى الشرق منها جنوباً وشمالاً تنتشر مضارب عشائر الموالي التي تمتد شرقاً حتى خط السكة الحديد الذي يصل ما بين حماة جنوباً وحلب شمالاً، والى الشرق من السكة الحديد تنتشر مضارب عشائر الحديديين، وقد دارت بين الموالي والحديديين حروب عامة، ومشاجرات فردية شكلت مادة للقصص الفولكلوري الذي دأبت عجائز منطقة معرة النعمان على غرسه في افكار الاطفال بالحكايات التي تمجد امراء المنطقة وشيوخها وبلطجيتها ولصوصها وابطالها فكل ما له علاقة بالشجاعة مرغوب به ومحمود، وكل ما يلامس الجُبن مكروه ومذموم، وابرز الحكايات التي كنا نسمعها كانت تدور حول الفترة القريبة جداً من ايام طفولتنا، وذلك عن جهاد الوطنيين السوريين ضد الاحتلال الفرنسي. كنا نطرب لما نسمعه عن بطولات ابراهيم هنانو الذي قاد الثورة السورية انطلاقاً من كفر تخاريم وجبال الزاوية وصولاً الى حلب وباقي المناطق السورية، كما طربنا لحكاية عقيل السقاطي الذي ثار على الاحتلال في قرية اسقاط، لكننا على صعيد القرية كنا نفخر بعمنا المختار الحاج حسن ابن عيوش الدغيم الذي شارك في ثورة البادية السورية ولا سيما ثورة عشائر الموالي بقيادة الامير الشايش بن عبدالكريم والامير عبدالرزاق، وتعاون الجميع مع فوزي القاوقجي، ولقاؤهم التاريخي مشهور في مزرعة الفعلول التابعة لقرية جرجناز الى سُفرة غداء أعدها لهم حسن العيوش، وما تبع ذلك من اسقاط طائرة فرنسية وتدمير مصفحة القضاء على سرية من المرتزقة الافارقة ثم حصار اعوان الفرنسيين لمنازل آل الدغيم وذبح اغنامهم، وقدموا لحومها للفرنسيين والمرتزقة، وشكلت تلك الحكايات مادة شيّقة لتكوين حسّنا الوطني.
وفي طفولتي عاصرت نشوء الاحزاب الاشتراكية التي التفّ حولها اكثرية الذين ايدوا الاحتلال الفرنسي سابقاً ثم ادعوا التقدمية والثورية، وقد شهدت معرة النعمان اشرس المعارك بين الاقطاعيين الوطنيين بزعامة المرحوم الوزير حكمت الحراكي وبين الاشتراكيين الذين والوا اكرم الحوراني في مدينة حماة. ومن المأثور عن الاشتراكيين انهم كانوا يهتفون ضد الاقطاع من الصباح حتى وقت الغداء، فيتوقفون عن الهتاف ليتناولوا الغداء الى موائد الاقطاعيين.
ودّعت طفولتي البريئة في القرية والتحقت بالمدرسة الاعدادية في ثانوية ابي العلاء المعري بالمعرة سنة 1961، وفي بداية العام الدراسي حصل انفصال سورية عن مصر وسقطت الجمهورية العربية المتحدة، وتم تسفير المصريين والمصريات من عسكر ومعلمين وعمال وحرفيين وراقصات ومطربات، وحينذاك خرج طلاب ثانوية ابي العلاء في تظاهرة مؤيدة للوحدة ومعترضة على الانفصال، ولما وصلوا الى السراي اطلقت الشرطة النار في الهواء فهرب الطلاب مخلفين وراءهم احذيتهم، وولوا الادبار حفاةً فقام تجار سوق المعرة بجمع الاحذية وبيعها للطلاب ثانية كأحذية مستعملة بعد تغيير معالمها باستخدام البويا.
مُدرّسُنا في مادة التربية الوطنية كان السيد شبلي العيسمي الذي وصل الى القيادة البعثية السورية، ثم سُجن، وعُلم انه توجه الى لبنان ومن هناك الى العراق. واذكر من اساتذتي مدرس التربية الاسلامية مصطفى مراد الحموي، واستاذ اللغة العربية عبدالعزيز رباح، واستاذ اللغة الانكليزية الاديب هاني الراهب الذي توفي اخيراً في دمشق بعدما اقام في الكويت مدة طويلة. اما استاذ الموسيقى فهو الفنان محمد رجب الذي كان يعزف على العود في اذاعة حلب، ثم لحن الكثير من اغاني ميادة الحناوي.
شكلت مرحلة الدراسة الاعدادية بالنسبة لجيلنا مرحلة قلق في خضم التحولات السريعة التي اجتاحت حياة السوريين، فقد بدأ انهيار المناهج المدرسية مع قيام الوحدة حيث الغيت المواد الدراسية السابقة، وقررت مناهج مسيّسة ليس لها مردود علمي، وبذلك تراجع المستوى الثقافي والعلمي السوري عن مثيله في لبنان، نازلاً بذلك الى ما يشبه المستوى المصري بعد الانقلاب الجمهوري، ومع الايام اصبحت المناهج الدراسية السورية انقلابية، فكل هزة سياسية يرافقها زلزال في الكتب المدرسية، فبعض السنوات الدراسية شهد تغييراً عاماً للكتب وبعضها شهد استئصال ملزمة او ملزمتين من بعض الكتب، وفي بعض السنوات اضيفت ملازم الى بعض الكتب المدرسية، ومع تغيير المناهج تباينت العقليات جراء صياغتها المدرسية فانعدم الجامع الثقافي المشترك بين ابناء الجيل الواحد من السوريين.
كتبتُ في المرحلة الابتدائية قصائد نبطية باللهجة البدوية العامية، وفي المرحلة الاعداية كتبت مقطوعات شعرية باللغة العربية الفصحى وشجّعني والدي واعمامي على قرض الشعر العامي والفصيح، ولما كنت اجهل علم العروض فقد تنوعت اوزان الابيات وبحورها في القصيدة الواحدة.
طويت صفحة المرحلة الاعداد فية وحصلت على الشهادة سنة 1965، وتقدمت بطلب الى دار المعلمين بحلب وكان مديرها حينذاك زهير مشارقة، وقد اجتزت الفحوص الطبية والنفسية بنجاح وكذلك الامتحان الثقافي، ولكنني لم اقبل بدار المعلمين لأن القبول انيط بالتقرير السياسي، وتم المقبول للطلاب الذين زكّتهم شعبهم وفروعهم الحزبية، اما نحن غير الحزبيين فخابت آمالنا.
العام الدراسي 1965 - 1966 كان عام شؤمٍ بالنسبة لي لأن ثانوية المعرة لم تستوعب جميع الناجحين في الشهادة الاعدادية، وحصل مثل ذلك في مناطق اخرى من محافظة ادلب، وقررت مديرية التربية افتتاح شعبة اضافية في ثانوية المتنبي في مركز محافظة ادلب فاجتمع في تلك الشعبة خليط من مناطق محافظة ادلب. وكان مدير الثانوية عبدالوهاب دويدري وهو بعثي من اسرة اقطاعية، وتلك السنة ابعدتني عن الاهل، وحرمتني من زيارة القرية في العطلة الاسبوعية، وشاركني مقعد الدراسة في تلك السنة ابراهيم الدغيم ابن عمي سعود رحمه الله، وسكنت مع محمد درويش ابن عمتي في غرفة ضيقة كالقبر ايجارها عشرون ليرة سورية في الشهر.
كرهت المدرسة في تلك السنة، وكنت اهرب مما اعاني من عالم الواقع الى عالم الشعر، ولاقيت تشجيعاً ادبياً من استاذنا الشيخ حكمت المعلم مدرس اللغة العربية، اما استاذ الرياضيات فزرع كرهها في قلوبنا، اما الملازم اول مدرس الفتوة فكان يعاقبنا جسدياً ولا يتورع عن صفعنا ورفسنا الخ… والصراع السياسي بين المدرسين انعكس سلباً على مستوى التعليم، وتحول عدد من الطلاب المتخربين الى مخبرين يكتبون التقارير لاجهزة الامن السياسي والعسكري، وتم اختراق حرم المدرسة، وعاش الطلاب حالة رعب لم ينج منها منتسبو الحزب الحاكم، ولا سيما بعدما انقسم البعثيون الى يمينيين ويساريين ووقعت حركة 23 شباط التصحيحية فاطاحت امين الحافظ ومن معه وامتلأت السجون بالبعثيين، وتم حل ميليشيات الحرس القومي وشطبت اغاني سحر ولودي شامية من اذاعة دمشق.
ومن كوارث العام الدراسي 1965 - 1966 رسوبي في صفي مع عدد كبير من ابناء شعبتنا التي تم الاستغناء عنها في العام التالي، وهكذا قضينا ايام الصيف في بؤس ونكد وعمل زراعي مرهق، ورفضت اعادة السنة الدراسية الثانوية الاولى، وقررت ترك الدراسة، لكن والدي عارضني والحقني بالثانوية الاهلية في ادلب للعام الدراسي 1966 - 1967، وبعدما بدأ العام الدراسي قام البعثيون بتأميم المدرسة في اطار الغاء التعليم الخاص وتم تعيين مدرسين من دون كفاءات فانحط مستوى التعليم الخاص ليلحق بالتعليم الحكومي، وشهدت المدارس تظاهرات وصراعات طلابية اسفرت عن جراح واعتقالات الخ… وكانت ايام العطل اقل من ايام الدوام، وكان الانحطاط الثقافي والعلمي والاخلاقي هو سيد الموقف في ادلب في تلك السنة، وقد سكنت تلك السنة مع ابراهيم ابن عمي سعود، واحمد ابن عمي الباشا فكنا ثلاثة طلاب في غرفة واحدة، وكانت الدار التي سكنا فيها الى جانب كنيسة الروم الاورثوذكس في حي المسيحيين الذي يمتاز بجمال بناته السافرات مما دفعنا الى قضاء جزء من وقتنا في التجوال في الشارع المجاور بحثاً عن نظرة الى وجه جميل من دون مردود عاطفي لأن ثيابنا العتيقة كفيلة بتفويت أية فرصة عشق او غرام قادر على كسر الحواجز الطائفية، فخرجنا من السنة بلا حمّصٍ على كل صعيد.
ومن كوارث هذا العام هزيمة الخامس من حزيران يونيو التي اسفرت عن احتلال سيناء والضفة والجولان، وبعد الهزيمة صحونا على ضعفنا وقوة عدونا، واكتشفنا الاكاذيب التي خدرونا بها بواسطة الاعلام المزيف والمناهج المدرسة الفاشلة.
في هذا العام الغيت معسكرات الفتوة الكبرى خوفاً من ضربة جوية اسرائيلية، واستعيض عنها بمعسكرات صغرى على مستوى المناطق، فأقيم لنا معسكر تدريب فتوة صيفي نهاري في ثانوية أبي العلاء المعري. وذات يوم اعتدى بائعو الخضار المعريون على بعض طلاب الفتوة القرويين، وجاء الزملاء الى المعسكر والدماء تسيل من رؤوسهم فجمعنا صفوفنا كأبناء فلاحين واحطنا بأبناء المعرة في المعسكر واشبعناهم ضرباً ولطماً، وانتقمنا لأبناء الفلاحين، وهرب فتيان المعرة فلاحقناهم، فاستعانوا بالحمالين العتالين فتصدينا لهم بقذف الحجارة كعادة ابناء الريف فولوا الأدبار. وحاول قادة حزب البعث التدخل فأخذوا نصيبهم من الحجارة واللكمات فاستنجد مدير منطقة المعرة بالمحافظ، وحضرت وحدة عسكرية من قيادة الجيش الشعبي بقيادة مفوض الفتوة في المحافظة، واطلقت علينا النيران في الهواء واعتقلنا بشكل جماعي، ثم افرج عنا بعد العصر من نفس اليوم، فخرجنا جميعاً الى سوق المعرة في شارع ابي العلاء وتحدينا بائعي الخضار والحذائين وخاف اهالي المعرة مغبة الاصطدام فسكتوا على مضض وسجلت تلك الحادثة في تاريخ انتصار ابناء البدو الفلاحين على ابناء مدينة المعرة، وانتهى المعسكر التدريبي الذي لم يتجاوز حفرَ حُفر الدفاع السلبي حول قلعة معرة النعمان.
بدأت الدراسة في الصف الثالث الثانوي في العام الدراسي 1967 - 1968، ونصحني بعض البعثيين القرويين بالانتساب الى حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم، ومبرر تلك النصيحة هو ان العمل في وظائف الدولة اصبح مقتصراً على البعثيين ومؤيدي الحزب، اما الآخرون فلا وظائف لهم ولو كانوا من النوابغ والعباقرة، وبناء على تلك النصائح فان عدداً كبيراً من الطلاب تقدموا بطلبات انتساب الى حزب البعث، وبعد دراسة طلباتنا تم قبولنا بصفة انصار اوليين وهذا يعني اننا سنخضع لمراحل اختبار هي مرحلة النصير الاولي والنصير المتوسط والنصير القيادي ثم سنخضع للمثول امام لجنة التقييم فاذا نجحنا، حصلنا على مرتبة العضو العامل، وهذا يتطلب اكثر من ست سنوات مقرونة بحضور الاجتماعات، ودفع الاشتراكات، وتنفيذ المهام الحزبية. وفي ذلك العام بدأت استغل سلطة الحزب ضد ادارة المدرسة فلا التزم الدوام النظامي، والجواب الجاهز سلفاً هو: عندنا اجتماع. فكلما سألنا الموجّه: اين كنت البارحة، فالجواب الجاهز: كان عندنا اجتماع، ونظراً لكثرة غيابي بعذر ومن دون عذر، قررت ادارة المدرسة فصلي مع عدد كبير من الرفاق البعثيين، وارسلت ادارة المدرسة قرار الفصل الى والدي ففوجئت به عندما حضر الى منزلي في ادلب اثناء وقت الدوام المدرسي ووجدني نائماً، سألني: لماذا انت هنا لا في المدرسة؟ فأجبته: مريض. فقال لي: واضح انك مريض عقلياً. ثم اخرج من جيبه قرار فصلي من المدرسة ورماه في وجهي، وقال: هيا الى المدرسة، فذهبت معه وقابلنا الموجّه الذي احضر دفتر تفقد الدوام، ولما شاهد والدي تكرار كلمة غائب مكتوبة باللون الاحمر في سجلي كاد يُغمى عليه. وتحدث مع الموجه ومدير الثانوية فاخبراه ان لا مجــال الى عودتي الى المدرسة، وحينذاك استدعتني شعبة التجنيد، وتسلمت دفتر خدمة العلم الالزامية في 10/2/1968، وضاقت عليّ الدنيا بما رحبت، واصبحت في عداد الطلاب الاحرار غير النظاميين، وذهبت الى الامتحان آخر العام وكانت النتجية مخزية اذ لم احصل على الشهادة الثانوية، فغضب والدي، وعتبت عليّ والدتي، واحتقرني اخي، وفقدت احترامي بين اقاربي، وعاقبني والدي بالعمل الزراعي الشاق، وقبلت الاهانات صاغراً، وجن جنون الوالد عندما وقعت بيده احدى رسائلي الغرامية التي ارسلتها الى احدى معلمات المدرسة الابتدائية، وسطا على الرسالة مصطفى ابن عمي فأعطاها الى والده وقام والده باعطائها الى والدي، وحينذاك طردني الوالد من المنزل، فصرت انام في غرفة مهجورة في طرف دارنا، كنت احضر اليها في وقت متأخر واغادرها فجراً الى المزرعة، وصرت احضر الى المنزل سراً لألتهم الطعام الذي تعطيني اياه والدتي من دون علم والدي، وبعد شهر تقريباً قررت ان اواجه والدي فاما الحياة واما الموت، فرصدت المنزل، وبعد تناول الاهل طعام العشاء دخلت عليهم فصرخ بي والدي: اخرج بره يا خائن، فتقدمت نحوه وقلت: افضل الموت على الخروج، وقدمت اليه سكيناً وقلت: اذبحني اذا شئت. فلن اخرج، فقال: لماذا عدت؟ فقلت: من الجوع والبرد، ولست مذنباً. فقال: والرسالة؟ فقلت: هي كلام على ورق. ثم تدخلت الوالدة واخوتي وبعض اعمامي، وهدأت ثورة والدي، ورحت اعمل مع والدي في الزراعة بجد ونشاط حتى انال رضاه وينسى موضوع الرسالة.
مرت العطلة الصيفية، وبدأ العام الدراسي 1968 - 1969، فشعرت بضياع مستقبلي، واهملت حضور الاجتماعات الحزبية، وتأخرت عن دفع الاشتراكات، ووجهت لي قيادة الفرقة الحزبية عقوبة التنبيه، ثم جاءتني عقوبة الانذار،. وشعرت كباقي الانتهازيين بعدم ضرورة الاستمرار في حزب البعث طالما انني تركت الدراسة واصبحت عاملاً زراعياً، والعمل الزراعي لا يحتاج الدعم الحزبي.
مع بداية العام الدراسي التحق زملائي بمدارسهم فشعرت بخطورة انقطاعي عن الدراسة، ولكنني برّرت لنفسي خطئي، وتصورت ان العمل الزراعي اهون من الدراسة، وخاب فألي ذات يوم اذ اصطحبني والدي الى احدى مزارعنا الوعرة التي لا يحرثها الجرار الزراعي "التراكتور". وعندما وصلنا بدأ الوالد تدريبي على حراثة الارض بواسطة المحراث الروماني الذي تجره الخيول، وتعلمت كيف تتم الحراثة، وبدأت العمل في الصباح، وانتهي في المساء، وتخللت ذلك استراحة الغداء لمدة ساعة عند الظهر، ورافقني الوالد طوال ذلك اليوم، وفي المساء نمت متعباً من دون ان اتناول طعام العشاء، وفي اليوم التالي ايقظني الوالد واصطحبني الى المزرعة وطلب مني القيام باعمال الفلاحة، وبعد الظهر ودعني وعاد الى المنزل، وقال لي: اصبحت فلاحاً ماهراً ولست بحاجة الى معلم، ومرت الأيام، وصرت احرث الارض تحت المطر، وحنيذاك ادركت النعيم الذي يتمتع به طلاب المدارس، ولكن "لات ساعة مندم" اصابني الارهاق، ولكن نظام العمل الزراعي لا يرحم، فالمزارعون في سباق مستمر مع المواسم، فلكل موسم عمله، ولكل فصل عمله، والعمل لزراعي لا يقبل التقديم ولا التأخير.
ومع بداية العام 1969 اعلنت مديريات التربية والتعليم في سورية عن موعد قبول طلبات الاشتراك في امتحانات الشهادات الاعدادية والثانوية للطلاب الاحرار غير المنتظمين في الدوام المدرسي، وحينذاك طلبت من الوالدة ان تستخدم نفوذها لدى الوالد كي يسمح الي ان اتقدم لامتحان الشهادة الثانوية مع الطلاب الاحرار، وفي صبيحة احد الايام اعطتني الوالدة ثلاثين ليرة سورية وقالت: اذهب اليوم الى ادلب وقدم أوراق الانتساب الى امتحان الشهادة الثانوية، فطرت من فرحي وذهبت الى ادلب وقدمت الاوراق، وبدأت الدراسة حراً من دون دوام، فبذلت مجهوداً لا بأس به خوفاً من العودة الى العمل الزراعي، لا طمعاً بنيل الشهادة الثانوية، وقدمت امتحانات الثانوية العامة القسم لادبي "الموحدة" فنلت الشهادة سنة 1969 تحت الرقم: 35779، وعلى الفور سددت الاشتراكات الحزبية المتراكمة بمعدل خمسين قرشاً سورياً عن كل شهر، وبدأت حضور الاجتماعات طمعاً بالحصول على وظيفة، ثم تقدمت للعمل في التعليم الابتدائي، فتم تعييني معلماً وكيلاً للصف الثاني الابتدائي في مدرسة جرجناز الابتدائية سنة 1969 - 1970، وبدأت استعيد مكانتي الاجتماعية، وفي تلك السنة كان معاشي الشهري مئتين وعشر ليرات سورية، وكان ثمن هكتار الارض يتراوح ما بين مئتين واربع مئة ليرة سورية، بينما بلغ ثمن هكتار الارض في العام 1999 نصف مليون ليرة سورية وما زال معاش المعلم الوكيل ثلاثة آلاف ليرة سورية!!!
وبدأ العام الدراسي 1970 - 1971، وحصلت على قرار تعييني معلماً بالوكالة في مدرسة معرة شمارين الابتدائية التي تقع في منتصف الطريق بين جرجناز ومعرة النعمان، وكان عددنا ثلاثة معلمين، يدرس كل واحد منا صفين "فصلين" وكان نصيبي تدريس الصف الثالث والصف الرابع الابتدائيين طوال تلك السنة، وقد فكرت بالزواج جدياً في تلك السنة، فالاحوال المادية لا بأس بها، والاوضاع السياسية استتبت بعدما قُبض على معظم الرفاق البعثيين المتعصبين، والغي النظام الداخلي للحزب، وصدر نظام داخلي جديد، واختصرت مراحل النصير الحزبي الثلاث الى مرحلة واحدة مدتها سنتين فقط، والغيت معسكرات الحزب الفدائية، والغي شرط تنفيذ عملية فدائية لنيل شرف العضوية العاملة في حزب البعث، وتم اعفاء الرفاق العائدين من دفع الاشتراكات القديمة المتراكمة الخ…
وبينما كنت اخطط للزواج تفاجأت بتسريح اخي ابراهيم من الخدمة العسكرية وطُلبتُ انا الى الخدمة العسكرية فضاعت آمالي، وكنت قد ارتكبت حماقة في هذا العام اذ اقنعت والدي في بداية السنة بضرورة ذهابي الى بيروت كي انتسب الى قسم اللغة العربية في جامعة بيروت العربية، ونجحت خطتي فاعطاني والدي المال اللازم لرسوم التسجيل، فغادرت سورية الى لبنان، وبدلاً من الانتساب الى الجامعة، بدأت رحلة سياحية ابتداء بزيارة قلعة بعلبك الرائعة، واعقبتها بزيارة وادي العرايش في زحلة ثم تابعت الى بيروت فاذهلتني الحضارة، ونزلت في فندق المعرض، وشاهدت ساحة الشهداء تمثال الحرية، المتحف، مخيم تل الزعتر، ثم قررت زيارة جبران خليل جبران فذهبت إلى قبره في بشري في قلب الجبل وزرت متحفه والمنزل الذي ولد فيه ومن هنالك تابعت الى اهدن ونزلت الى زغرتا وطرابلس ثم عدت الى بيروت، فاشتريت اكثر من خمسين ديوان شعر بسعر ليرة ونصف لبنانية للديوان الواحد اضافة الى كتاب الف ليلة وليلة وغيره، وعدت الى سورية، وقرأت الف ليلة وليلة اولاً ثم بدأت قراءة الدواوين، وكان والدي يحسبني لبيّت رغبته وباشرت دراستي الجامعية، لكن امري كُشف عندما بلغتني شعبة تجنيد المعرة بموعد سوقي لأداء خدمة العلم الالزامية، فقال لي الوالد: احضر لهم وثيقة دراسية من الجامعة ويمكن ان تحصل على تأجيل دراسي، وحينذاك اعترفت بعدم الانتساب فوبخني ولامني وقال: غداً ستندم اثناء الخدمة العسكرية وكان مصيباً في كل شيء اذ كان على حق وكنت على باطل.
انهيت خدمتي العسكرية وبدأت عضويتي في الحزب، لكنني ادركت خطورة ترك الدراسة فقررت المتابعة في الجامعة بعد طول انقطاع وفاتحت والدي بنواياي فضحك وقال: هذا املي ولكنني قطعت الامل من دراستك. وقد ذهبت الى بيروت وسجلت في كلية الآداب - قسم اللغة العربية، وصرت اتردد على بيروت طالباً جامعياً، ولكن حظي العاثر ابى ان تستمر الهناءة، اذ تم استدعائي الى الخدمة العسكرية الاحتياطية فالتحقت في 21/12/1977 وحتى 20/12/1978، وعلى رغم الخدمة العسكرية والسفر من سورية الى لبنان فقد نجحت في السنة الاولى بدرجة جيد، وتابعت دراسة السنة الثانية، وكان مركز قطعتي العسكرية في تلك السنة جنوب دمشق، ولكن ذهابي الى بيروت باللباس العسكري الصق بي تهمة العمل في قوات الردع العربية فدفعت ثمن ذلك غالياً في ما بعد حينما اعتقلني اللبنانيون.
تابعت العمل الحزبي مع الدراسة الجامعية فنجحت في السنة الثالثة، ثم السنة الرابعة، فنلت اجازة اللغة العربية بدرجة جيد في سنة 1981، وبالاضافة الى الدراسة والعمل الحزبي عشت اول تجربة غرامية حقيقية في حياتي وكان قصدي الزواج.
طلبت استيداعاً لمدة سنة وغادرت سورية الى لبنان، والتحقت بدبلوم الدراسات العربية والاسلامية في كلية الآداب بجامعة بيروت العربية للعام الدراسي 1981 - 1982، كما التحقت بشعبة ماجستير الأدب العربي في الجامعة اللبنانية ودرّسنا الشيخ صبحي الصالح والدكتور مصطفى الجوزو والدكتور محمد المصري، وعملت محرراً في مجلة "الفكر العربي". وتلك السنة من افضل سنوات عمري مادياً ومعنوياً لكنها لم تكتمل على خير، فبينما كنا نحضر المحاضرة في كلية الآداب اللبنانية بعد الظهر انقض الطيران الاسرائيلي على المدينة الرياضية في بيروت وبدأت الحرب التي ادت الى اجتياح لبنان وحصار بيروت…
محمود السيد الدغيم
زميل باحث في مركز الدراسة الاسلامية - كلية الدراسات الشرقية والافريقية - جامعة لندن.